محدث الشام ناصر الدين الألباني ... أي عالم افتقدناه ؟
محدث الشام ناصر الدين الألباني ... أي عالم افتقدناه ؟ بقلم : إبراهيم باجس عبد المجيد

لم يكد قلمي يجف من الكتابة عن عالم الأمة وفقيدها سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه اهلل- حتى جاءني الخبر المفجع بوفاة شيخنا محدث الشام ، بل محدث الأمة في العصر الحديث ، العلامة محمد ناصر الدين الألباني ، الذي وافاه أجله المحتوم قبيل المغرب من يوم السبت الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة لسنة عشرين وأربعمائة وألف للهجرة ، الموافق لليوم الثاني من شهر تشرين الأول لسنة تسع وتسعين وتسعمائة وألف للميلاد .

وكان حقاً خبراً مفجعاً ، نقله لي أخي عبر الهاتف من الأردن . . . قد دفنا الآن الشيخ الألباني -رحمه اهلد- وما درى أنهم دفنوا علماً كثيراً وقلباً كبيراً ، حمل هموم الأمة ما يزيد على نصف قرن من الزمان .

وإن كان المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها قد تأثروا لموت هذا العالم الفذ ، لأنهم فقدوا علماً كثيراً بموته ، فأنا أشاطرهم مصابهم هذا ، وأزيد عليهم أنني فقدت أيضاً جاراً عزيزاً على قلبي عرفته منذ ما يقارب العشرين عاماً ، عندما حل ضيفاً على الأردن عند هجرته من بلاده في بداية الثمانينات من القرن الميلادي الحالي ، وسكن بجوارنا منذ ذلك الحين ، فعرفت فيه العالم العامل بعلمه ، المطبق لما يدعو إليه ، لا يخشى في الله أحداً ، يقول الحق ولو أغضب الكثيرين ، صغاراً كانوا أو كباراً . . . عرفت فيه الجار الودود .. المسالم لجيرانه . . . عرفته عن قرب بعد أن سمعت عنه الكثير ، وكنت وإياه -رحمه اهلل- كما قال الأول :
كانت مساءلة الركبان تخبرني *** عن جعفر بن فلاح أحسن الخبر
لما التقينا فلا واهلر ما سمعت *** أذني بأحسن مما قد رأى بصري

وكانت هجرة الشيخ -رحمه اهلح- إلى الأردن هي هجرته الثانية في حياته ، أما الأولى فكانت في طفولته المبكرة ، حيث هاجر مع أسرته من بلده ألبانيا ، التي ولد في عاصمتها شقودرة سنة 1333 هـ الموافق لسنة 1914م هاجر -رحمه اهل - من تلك البلاد مع أسرته فراراً بدينهم من بطش الحكم الشيوعي الغاشم الذي اجتاح أوروبا الشرقية قادماً من روسيا البلشفية ، فحل به مع أسرته المطاف في دمشق الشام ، وهناك نشأ و ترعرع .

وحبب إليه العلم ، فدرس المرحلة الابتدائية في مدارس دمشق النظامية ، ثم رأى والده الشيخ نوح نجاتي ، وهو من كبار علماء الأحناف في بلاده ، أن يخرجه من تلك المدارس ، ويضع له برنامجاً لتلقي العلوم الشرعية واللغوية على مشايخ الشام البارزين في عصره ، وهكذا كان .

ثم حبب للشيخ علم الحديث ، وشجعه على ذلك مقالة قرأها للشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار التي كان يصدرها في مصر ، وكان موضوع المقالة حول محاسن كتاب إحياء علوم الدين للغزالي والمآخذ عليه وتخريج الحافظ زين الدين العراقي لأحاديث هذا الكتاب ، وكانت هذه المقالة بداية الطريق الطويل في مشوار الشيخ مع علم الحديث ، والذي انتهى منذ أيام قلائل .

ومنذ ذلك الحين انكب الشيخ -رحمه اهلل- على دراسة علم الحديث ومصطلحه وهو لم يتجاوز العشرين من عمره ، وقضى في دراسة هذا العلم الماتع ساعات طويلة من يومه ، إما في محل تصليح الساعات الذي كان يعمل فيه مع والده الشيخ نوح نجاتي ، وإما في أروقة المكتبة الظاهرية التي قضى فيها الوقت الأكبر إبان طلبه للعلم ، فكان يمكث فيها من الوقت أكثر مما يمكث في محله الذي هو مصدر رزقه ، حتى إنه كان يداوم فيها أكثر من موظفيها الرسميين ، مما استدعاهم أن يخصصوا له غرفة للمطالعة والقراءة فيها .

كان -رحمه الله- شغوفاً بطلب العلم ، لا يريح جسده البتة من عناء القراءة والسهر وتقليب أوراق الكتب والمخطوطات ، حتى أعياه التعب ، ودب في جسمه المرض ، وهو لم يزل شاباً ، فنصحه الأطباء بالخلود إلى الراحة ، وعدم ممارسة الأعمال الكتابية ، فامتثل لأمرهم -كما يظن رحمه اهل - فترك العمل في تلك الكتب والمخطوطات الموجودة في المكتبة الظاهرية ، وأخذ يسلي نفسه (!) بالبحث عن ورقة ضائعة من مخطوط ما ، واستغرق هذا البحث شهوراً عدة ، كانت أصعب من عمله الأول في القراءة والتحقيق ، وأسفر البحث عن هذه الورقة الضائعة عن تأليف كتاب فهرس مخطوطات الحديث الموجودة في المكتبة الظاهرية .

فانظر -أخي القاريء الكريم- إلى علو همة هذا الشيخ ، وعدم تضييعه للأوقات حتى في حال مرضه ، ولقد ذكرني حاله في مرضه الأول الذي ألم به أيام شبابه بمرضه الأخير الذي توفي فيه ، حيث زرته في بيته الزيارة الأخيرة منذ قرابة الثلاثة شهور ، وقد أخذ المرض منه مأخذه ، فوجدته منكباً على كومة من الكتب ، يطالع ويعلق ، ويملي على تلاميذه وأحفاده بعض الفوائد الحديثية والفقهية لتدوينها في كتاب يعمل على تأليفه .

وحدثني -رحمه اهلل- في تلك الزيارة عن مشاريع لمؤلفات ينوي العمل فيها ، تحتاج إلى مثل عمره المبارك لإنجازها . . . أشفقت عليه حينها ، وقلت له : يا شيخنا ، أما آن لك أن تستريح ! ولكن أنى له ذلك وقد أشرب حب العلم قلبه ، فلا يصحو إلا عليه ولا ينام إلا عليه ، وصدق رسول اهلن -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول : " منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال " ولقد واهلل كان الألباني من طلاب العلم الذين لا يشبعون .

ومن حبه للعلم وأهله فقد كان يعامل طلابه في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، أثناء تدريسه فيها ، كأبنائه وأصدقائه ، حيث ربطته بهم روابط وثيقة ، فلم يكن يكتفي بما يلقيه عليهم من دروس ومحاضرات في قاعات الدرس ، بل يسعى لإفادتهم أينما كانوا ، في ساحات الجامعة واستراحاتها ، وفي الطريق ماشياً أو راكباً في سيارته ، حيث يقوم بإيصال بعض الطلبة في طريقه ، تطبيقاً لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- : " من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ".

ووفاء منه لهذه الجامعة التي أحبها ، وأفنى فيها شطراً من عمره ، فقد أوصى بأن تودع مكتبته العامرة ضمن مكتبة هذه الجامعة العريقة ، حتى تعم الفائدة ، وينتفع بها قطاع كبير من الطلبة الذين يؤمونها من شتى أصقاع المعمورة ، فما أكرمك حياً وما أكرمك ميتاً يا شيخنا المبجل !

كان الشيخ الألباني -رحمه اهلأ- يتحلى بصفات قل أن توجد في كثير من العلماء أمثاله ، ومن أهمها التمسك بما يراه صواباً وحقاً ، وإن خالف رأي الكثيرين ، ولذا فقد عاداه كثير من المخالفين من المذهبيين والمتصوفة والمبتدعة ، وكان يقارعهم الحجة بالحجة والدليل بالدليل ، هذا إن كان عندهم دليل .

ولم تكن مخالفته للآخرين لهوى عنده أو انتصاراً لنفسه ، إنما هو انتصار للحق وأهله ، وقد زرته في بيته سنة 1407 هـ/ 1987 م في محاولة مني للتوفيق بينه وبين أحد أقرانه من كبار المشايخ المحققين لعلم الحديث ، والذي كان يخالفه الرأي في كثير من المسائل ، ومن جملة ما قلت له يومها : يا شيخنا ، لم يزل الأقران يخالف بعضهم بعضاً ، ولكن دون هذه القطيعة التي نراها بينكما منذ سنين عديدة ، وذكرته بما لذلك من تأثير سلبي كبير علينا نحن طلبة العلم ، فقال : يا بني ، إن خلافي مع الشيخ فلان ليس خلافاً شخصياً ، إنما هو خلاف منهج ومبدأ ، ومنهجي لا يلتقي مع منهجه ، ولكنه -رحمه الله- رأى أن من الخير الالتقاء بهذا الشيخ ، واغتنمتها فرصة عظيمة بأن جمعتهما في بيتي ولم يكونا قد التقيا منذ اثنتي عشرة سنة ، ثم لم يلتقيا بعدها أيضاً منذ ذلك التاريخ ، وقد مضت من السنين مثلها ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

إلا أنه -رحمه اهله- كان وقافاً عند الحق إذا تبين له الخطأ ، وأن الصواب مع الغير ، ولا أذكر أنني راجعته في مسألة علمية وهم فيها في كتاب من كتبه ، إلا ويمسك القلم مصححاً للخطأ وشاكراً لي تنبيهه عليه ، ومن يقرأ في كتب الشيخ -رحمه الله- يجد رجوعه عن كثير من المسائل الفقهية أو الحديثية التي كان كتبها في طبعات سابقة لكتبه تلك .

وبعد ، فماذا عساي أن أكتب عن رجل نذر نفسه وعمره وحياته للعلم وأهله ، ونشر العقيدة الصحيحة بين المسلمين ، وخدمة سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وقد رفع شعار " تقريب السنة بين يدي الأمة " ، وعمل على تقريبها من خلال شعار آخر هو التصفية والتربية ، أي تصفية السنة والأحاديث النبوية من الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي شابتها ، وتقديمها لعامة الأمة صافية نقية ، ثم تربية النشء والعامة والخاصة على هذه السنة المطهرة .

ماذا عساي أن أكتب عن عالم فذ ، وعن محدث ملهم ، وعن رجل عصامي ، وعن جار ودود ، وعن شيخ فاضل ، فالقلم والقرطاس لا يوفيانه حقه ، ولا نملك له الآن إلا الدعاء ، فنسأل اهل أن يجزيه كفاء ما قدم ، وأن يخلف على المسلمين مثله أو خيراً منه .

المصدر: مجلة الدعوة (1713/67).